سورة القمر - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القمر)


        


{سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)}
فإن قال قائل: سيعلم للاستقبال ووقت أنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كانوا قد علموا، لأن بعد الموت تتبين الأمور وقد عاينوا ما عاينوا فكيف القول فيه؟ نقول: فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون هذا القول مفروض الوقوع في وقت قولهم: بل هو كذاب أشر، فكأنه تعالى قال يوم قالوا: بل هو كذاب أشر سيعلمون غداً وثانيهما: أن هذا التهديد بالتعذيب لا بحصول العلم بالعذاب الأليم وهو عذاب جهنم لا عذاب القبر فهم سيعذبون يوم القيامة وهو مستقبل وقوله تعالى: {غَداً} لقرب الزمان في الإمكان والأذهان ثم إن قلنا: إن ذلك للتهديد بالتعذيب لا للتكذيب فلا حاجة إلى تفسيره بل يكون ذلك إعادة لقولهم من غير قصد إلى معناه، وإن قلنا: هو للرد والوعد ببيان انكشاف الأمر فقوله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَداً} معناه سيعلمون غداً أنهم الكاذبون الذين كذبوا لا لحاجة وضرورة، بل بطروا وأشروا لما استغنوا، وقوله تعالى: {غَداً} يحتمل أن يكون المراد يوم القيامة، ويحتمل أن يكون المراد يوم العذاب وهذا على الوجه الأول.


{إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة} بمعنى الماضي أو بمعنى المستقبل، إن كان بمعنى الماضي فكيف يقول: {فارتقبهم واصطبر} وإن كان بمعنى المستقبل فما الفرق بين حكاية عاد وحكاية ثمود حيث قال هناك: {إِنَّا أَرْسَلْنَا} [القمر: 19] وقال هاهنا: {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة} بمعنى إنا نرسل؟ نقول: هو بمعنى المستقبل، وما قبله وهو قوله: {سَيَعْلَمُونَ غَداً} يدل عليه، فإن قوله: {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة} كالبيان له، كأنه قال سيعلمون حيث: نرسل الناقة وما بعده من قوله: {فارتقبهم} {وَنَبّئْهُمْ} [القمر: 28] أيضاً يقتضي ذلك، فإن قيل قوله تعالى: {فَنَادَوْاْ} [القمر: 29] دليل على أن المراد الماضي قلنا سنجيب عنه في موضعه، وأما الفارق فنقول: حكاية ثمود مستقصاة في هذا الموضع حيث ذكر تكذيب القوم بالنذر وقولهم لرسولهم وتصديق الرسل بقوله: {سيَعْلَمُونَ} وذكر المعجزة وهي الناقة وما فعلوه بها والعذاب والهلاك يذكر حكاية على وجه الماضي والمستقبل ليكون وصفه للنبي صلى الله عليه وسلم كأنه حاضرها فيقتدي بصالح في الصبر والدعاء إلى الحق ويثق بربه في النصر على الأعداء بالحق فقال: إني مؤيدك بالمعجزة القاطعة، واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص، وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتم وجه لأن حال صالح كان أكثر مشابهة بحال محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه أتى بأمر عجيب أرضى كان أعجب مما جاء به الأنبياء، لأن عيسى عليه السلام أحيا الميت لكن الميت كان محلاً للحياة فأثبت بإذن الله الحياة في محل كان قابلاً لها، وموسى عليه السلام انقلبت عصاه ثعباناً فأثبت الله له في الخشبة الحياة لكن الخشبة نبات كان له قوة في النماء يشبه الحيوان في النمو فهو أعجب، وصالح عليه السلام كان الظاهر في يده خروج الناقة من الحجر والحجر جماد لا محل للحياة ولا محل للنمو (فيه) والنبي صلى الله عليه وسلم أتى بأعجب من الكل وهو التصرف في جرم السماء الذي يقول المشرك لا وصول لأحد إلى السماء ولا إمكان لشقه وخرقه، وأما الأرضيات فقالوا: إنها أجسام مشتركة المواد يقبل كل واحد منها صورة الأخرى، والسموات لا تقبل ذلك فلما أتى بما عرفوا فيه أنه لا يقدر على مثله آدمي كان أتم وأبلغ من معجزة صالح عليه السلام التي هي أتم معجزة من معجزات من كان من الأنبياء غير محمد صلى الله عليه وسلم وفيه لطيفة وهو أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي. وذكر معه مفعوله فالواجب الإضافة تقول: وحشي قاتل عم النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قلنا: قاتل عم النبي بالإعمال فلابد من تقدير الحكاية في الحال كما في قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18] على أنه يحكي القصة في حال وقوعها تقول: خرجت أمس فإذا زيد ضارب عمراً كما تقول: يضرب عمراً، وإن كان الضرب قد مضى، وإذا كان بمعنى المستقبل فالأحسن الإعمال تقول: إني ضارب عمراً غداً، فإن قلت إني ضارب عمرو غداً حيث كان الأمر وقع وكان جاز لكنه غير الأحسن، والتحقيق فيه أن قولنا: ضارب وسارق وقاتل أسماء في الحقيقة غير أن لها دلالة على الفعل فإذا كان الفعل تحقق في الماضي فهو قد عدم حقيقة فلا وجود للفعل في الحقيقة ولا في التوقع فيجب الحمل على ما للاسم من الإضافة وترك ما للفعل من الأعمال لغلبة الإسمية وفقدان الفعل بالماضي، وإذا كان الفعل حاضراً أو متوقعاً في الاستقبال فله وجود حقيقة أو في التوقع فتجوز الإضافة لصورة الاسم، والإعمال لتوقع الفعل أو لوجوده ولكن الإعمال أولى لأن في الاستقبال لن يضرب يفيد لا يكون ضارباً فلا ينبغي أن يضاف، أما الإعمال فهو ينبئ عن توقع الفعل أو وجوده، لأنه إذا قال: زيد ضارب عمراً فالسامع إذا سمع بضرب عمرو علم أنه يفعل فإذا لم يره في الحال يتوقعه في الاستقبال غير أن الإضافة تفيد تخفيفاً حيث سقط بها التنوين والنون فتختار لفظاً لا معنى، إذا عرفت هذا فنقول: {مُرْسِلُواْ الناقة} مع ما فيه من التخفيف فيه تحقيق الأمر وتقديره كأنه وقع وكان بخلاف ما لو قيل: إنا نرسل الناقة.
المسألة الثانية: {فِتْنَةً} مفعول له فتكون الفتنة هي المقصودة من الإرسال لكن المقصود منه تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صالح عليه السلام لأنه معجزة فما التحقيق في تفسيره؟ نقول: فيه وجهان:
أحدهما: أن المعجزة فتنة لأن بها يتميز حال من يثاب ممن يعذب، لأن الله تعالى بالمعجزة لا يعذب الكفار إلا إذا كان ينبئهم بصدقه من حيث نبوته فالمعجزة ابتلاء لأنها تصديق وبعد التصديق يتميز المصدق عن المكذب وثانيهما: وهو أدق أن إخراج الناقة من الصخرة كان معجزة وإرسالها إليهم ودورانها فيما بينهم وقسمة الماء كان فتنة ولهذا قال: {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً} ولم يقل: إنا مخرجوا الناقة فتنة، والتحقيق في الفتنة والابتلاء والامتحان قد تقدم مراراً وإليه إشارة خفية وهي أن الله تعالى يهدي من يشاء وللهداية طرق، منها ما يكون على وجه يكون للإنسان مدخل فيه بالكسب، مثاله يخلق شيئاً دالاً ويقع تفكر الإنسان فيه ونظره إليه على وجه يترجح عنده الحق فيتبعه وتارة يلجئه إليه ابتداء ويصونه عن الخطأ من صغره فإظهار المعجز على يد الرسول أمر يهدي به من يشاء اهتداء مع الكسب وهداية الأنبياء من غير كسب منهم بل يخلق فيهم علوماً غير كسبية فقوله: {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً} إشارة إليهم، ولهذا قال لهم: ومعناه على وجه يصلح لأن يكون فتنة وعلى هذا كل من كانت معجزته أظهر يكون ثواب قومه أقل، وقوله تعالى: {فارتقبهم} أي فارتقبهم بالعذاب، ولم يقل: فارتقب العذاب إشارة إلى حسن الأدب والاجتناب عن طلب الشر وقوله تعالى: {واصطبر} يؤيد ذلك بمعنى إن كانوا يؤذونك فلا تستعجل لهم العذاب، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى قرب الوقت إلى أمرهما والأمر بحيث يعجز عن الصبر.


{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)}
أي مقسوم وصف بالمصدر مراداً به المشتق منه كقوله ماء ملح وقوله زور وفيه ضرب من المبالغة يقال للكريم: كرم كأنه هو عين الكرم ويقال: فلان لطف محض، ويحتمل أن تكون القسمة وقعت بينهما لأن الناقة كانت عظيمة وكانت حيوانات القوم تنفر منها ولا ترد الماء وهي على الماء، فصعب عليهم ذلك فجعل الماء بينهما يوماً للناقة ويوماً للقوم، ويحتمل أن تكون لقلة الماء فشربه يوماً للناقة ويوماً للحيوانات، ويحتمل أن يكون الماء كان بينهم قسمة يوم لقوم ويوم لقوم ولما خلق الله الناقة كانت ترد الماء يوم فكان الذين لهم الماء في غير يوم ورودها يقولون: الماء كله لنا في هذا اليوم ويومكم كان أمس والناقة ما أخرت شيئاً فلا نمكنكم من الورود أيضاً في هذا اليوم فيكون النقصان وارداً على الكل وكانت الناقة تشرب الماء بأسره وهذا أيضاً ظاهر ومنقول والمشهور هنا الوجه الأوسط، ونقول: إن قوماً كانوا يكتفون بلبنها يوم ورودها الماء والكل ممكن ولم يرد في شيء خبر متواتر والثالث: قطع وهو من القسمة لأنها مثبتة بكتاب الله تعالى أما كيفية القسمة والسبب فلا وقوله تعالى: {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} مما يؤيد الوجه الثالث أي كل شرب محتضر للقوم بأسرهم لأنه لو كان ذلك لبيان كون الشرب محتضراً للقوم أو الناقة فهو معلوم لأن الماء ما كان يترك من غير حضور وإن كان لبيان أنه تحضره الناقة يوماً والقوم يوماً فلا دلالة في اللفظ عليه، وأما إذا كانت العادة قبل الناقة على أن يرد الماء قوم في يوم وآخرون في يوم آخر، ثم لما خلقت الناقة كانت تنقص شرب البعض وتترك شرب الباقين من غير نقصان، فقال: {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} كم أيها القوم فردوا كل يوم الماء وكل شرب ناقص تقاسموه وكل شرب كامل تقاسموه.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12